السبت، 22 ديسمبر 2012

قطار جديد

.. وتعود المحطة إلى ركابها وتعود لها الحياة ويرجع هدير القطارات وزحام المسافرين إلى جهات قد لا يعرفها أحد ولا حتى من يقطعون التذاكر.. إنها المحطة السرية لا يصل لها سوى من يحتاجها ويريدها، أما من يخاف القطارات أو يشعر بالملل من الهدير فلا يقترب، لماذا تركب السفينة وأنت تشعر بالغثيان؟ لا بحر من غير دوار، لماذا تخاطر بركوب قطار سريع لا يعرف إلى أين يذهب ولا يعرف حتى قائده وجهته؟ لماذا وافقت على الصفقة من البداية؟ هل هي حاجتك الداخلية لارتياد المجهول؟ كل النوارس تطير وتهاجر بغريزتها مثلك فلا تخجل، هل تحاول ركوب ذلك القطار لمجرد الفضول؟ أحترم قرارك ولكن احترم قواعدي، هل تحاول أن تثبت لنفسك إن القطارات ألعن وسيلة مواصلات مزعجة الصوت تستقلها خلطة من الفقراء واللصوص لا تصل في موعدها أبدا؟ لماذا دخلت المحطة وأنت تعرف ما ينتظرك؟ لماذا في مجتمعنا يؤكد الغني للفقير حاجته؟ ويذل المتعلم الأمي بجهله؟ ويعاير المؤمن العاصي بذنوبه؟
.. اليوم تعود المحطة إلى ركابها الذين وقفوا طويلا على رصيف اللامبالاة والقلق في انتظار رحلتهم مع قصة أو خاطرة أو حتى كذبة، مَن ينكر إن الكذب أحيانا جميل؟ القليل من الورق على حائط الحياة قد يخفي شرخا قبيحا، وصورة رقيقة في برواز أنيق أجمل من تلك الحفرة التي صنعها طفل بسكين صغيرة في الحائط لعله يستطيع أن يخترقه للحجرة المجاورة!.. فكانت النتيجة أنه لم يصل ولم يقدر على إعادة الحائط كما كان.
أرصفة المحطة معروفة وسهل الوصول إليها، فعلي اليسار قطارات انطلقت منذ فترة طويلة بعضها وصل لقلوب الناس لأنها خرجت بالفعل من قلب وأعصاب كاتبها، وبعضها ربما ضل الطريق لأن عقل الكاتب كان أقوى صوتا فيها من مشاعره وقلبه، لأن عقولنا الشرقية العربية "شريك مخالف"، متى اتبعنا عقولنا وشعرنا بالراحة؟ العقل يفرز مخدر سحري مسكن للألم لكنه أبدا لا يعالج مرضا ولا صداعا، قررت ألا أحب وألا أعشق وأن أحسبها بالورقة والقلم والمكسب والخسارة والفائدة والمتعة، لذلك نفعل الفعل ولا نتفاعل معه ولا ننفعل به.
يسألني أحدهم لماذا كلما توسمت في شخص إنه صديق تخفت العلاقة بعد أول زيارة للسرير؟ ويتسائل آخر كيف تحمل أن يزور سريره في الشهر 45 شخصا بمعدل رجل ونصف رجل في اليوم؟ ويتعجب واحد لماذا يبدي له صديقه محبته ويصرح له في نفس الوقت بأنه كان مع رجل آخر منذ قليل؟ ويبكي غيرهم وهم يتمتم "لماذا تركني؟".. لأننا جميعا غاب الحب عن حياتنا، لقد خفقت العلاقة مثلما تزهد في العسل بعدما تتذوق القليل منه، ولا مانع من تجربة 45 نوعا من العسل بالفواكة والمكسرات ومن زهرة البلح وزهرة البرسيم أو حتى العسل الأسود، يقول يحبك وإنه كان مع آخر لتخرج له كل العسل بداخلك، ثم ألقاك بعدما امتص الرحيق والعسل، وترك على السرير بقايا معركة.. دخل فيها الخاسر بقلبه ومشاعره ودخل فيها الخاسر الأكبر بعقله وشهوته.
لا أنسى أبدا نزار قباني وهو يرثي حال العرب عقب النكسة "لبسنا قشرة الحضارة والروح جاهلية".. أي حضارة سادت دون تغليب القلب والإيمان كالحضارة الإسلامية، أي حضارة عاشت بآدابها وفنونها وعلمائها كالحضارة الفارسية، رغم همجية الحروب الصليبية لم نعد نذكر من حضارة أوروبا في القرون الوسطى سوى اللوحات الفنية والمعمار المميز لباريس وروما وإسبانيا، هذه حضارات لاتزال تعيش لأن كان ورائها هدف يستند إلى فن أو أدب أو إيمان، إنها حضارات قامت على أخلاق ولو اختلفنا معها أو عليها، ولكننا اليوم بلا أخلاق ولا فن ولا إيمان، فمن الطبيعي ألا نعرف فن الحب، ومن الطبيعي ألا يشهر بنا من نحب ويتلاعب بنا لأننا بلا أخلاق، ومن الطبيعي ألا نشعر بحلاوة شيء لأننا لا نؤمن بأي شيء.