الجمعة، 25 سبتمبر 2009

من بلد الولاد

نحتاج دائما لمثل هذه الأحجار التي تعلن للناس عن وجود البحيرة الراكدة التي يتجنبون الاقتراب منها، ولكن لا أستطيع أن أقول عن "بلد الولاد" حجراً ثقيلاً ألقي في البحيرة، فقد واجهت الرواية الصغيرة معوقات كثيرة، بدءاً من دور النشر التي رفضتها والمكتبات التي نصبت نفسها رقيبا ورفضت بيعها، وانتهاءاً بمرورها على النخبة المثقفة في مصر مرور الكرام، فلم نجد من يقدمها أو يتناولها بشكل جاد، وفوق كل هذا عدم اهتمام أصحاب القضية أنفسهم بالبحث عنها وقراءتها ومناقشتها، ورغم كل هذا الظلم أرى أن الرواية كانت "حجراً متوسط الحجم" ألقي في البحيرة، لكن أهل القرية – كعادتهم – وضعوا أصابعهم في آذانهم. مبدئياً استطاعت القصة أن تصف وتنقل ملامح كثيرة من حياة المثليين في مصر، واستعرض الكاتب نماذج كثيرة من حياة المثليين، فهناك الذي يمارس الجنس من أجل دفع إيجار الغرفة التي يسكن فيها بعدما طرده أهله عندما عرفوا بمثليته، وهناك المثلي المتدين الذي قد يمارس الجنس مرة ثم يبكي ويعود إلى الله حتى يغلباه الشوق والشهوة فيرجع للجنس من جديد، وهناك الذي يبحث عن الجنس أولاً والذي يبحث عن الصداقة أولاً، إلى آخر النماذج التي كانت أشبه بالعرض المباشر دون محاولة من الكاتب أن يشرح لنا أعماق كل شخصية، كما شعرت أن الكاتب أراد أن يعلن للقارئ غير المثلي عن كيان المثليين، ويوصل له معلومات عنه مثل أماكن تجمعهم أمام حلواني حمدي حسن برمسيس أو أمام كنتاكي التحرير أو مقاهي البورصة، أو أسلوب تعامل بعض المثليين وأسماء الفتيات التي يطلقونها على بعضهم مثل سناء وميرنا وإنجي وليلى علوي، فقد كان أسلوب العرض مباشر بشكل كبير، وهذه إحدى سلبيات الرواية التي يشعر القارئ في أحيان كثيرة أنه يتلقى معلومات مجردة. وعند التعرض لبطل الرواية لم أحب – كمثلي – نقطة بداية ميول (عصام) الذي كان يرتدي "فستان بناتي وشبشب بناتي بوردة" وميله للعب مع البنات وتفضيله للعبة العروسة، حيث تترسخ لدى القارئ غير المثلي الصورة الذهنية المعتادة عن المثليين بأنهم "منسونين" مثل (محمد) الذي جعله المؤلف أقرب للفتاة منه لرجل من حيث الشكل والشعر والملابس، كما وقع الكاتب في فخ "التنميط" عندما تعرض الطفل عصام للاغتصاب، لتصبح أسباب المثلية محصورة بين التعرض للاغتصاب ومعاملة الطفل الذكر كأنثى، فالمثلية ليست حادثاً بل هي ميول داخل الإنسان يولد ويشعر بها قبل أن يدرك ويعرف شيئاً يدعى الجنس، وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فقد كان مشهد الاغتصاب فقيراً للغاية من الناحية التصويرية أو النفسية، فجريمة مثل الاغتصاب لا يمكن أن نتناولها في صفحة ونصف الصفحة!! تناول الجنس في الأدب له أسلوبه وقواعده، فما أكثر القصص في المكتبة العربية التي تناولت المعاشرة الجنسية بأسلوب لا يجرح ولا يخجل بل يشوق، في حين الكاتب كان يلمح حيث يجب أن يصرح، وكان يصرح حيث يجب أن يلمح أو يصمت، فمسابقة "أفتح السوستة" لم أجد فيها سوى ترسيخاً زائداً لصورة المثلي الصغير صاحب الشبق الذي لا ينتهي حتى يفتح سوسته بنطلون كل تلميذ في المدرسة، وعندما يعجب بأحدهم يقترب منه ويمد يده ملاطفاً ويقول "إيه الحاجات الجامدة دي"، - من وجهة نظري – ورغم أن كل هذا موجود ويحدث، لكني شعرت بمدى سوقية المشهد الذي سوف يدفع الآخر لعدم تقبل المثلي وهو الهدف الأساسي من الرواية – تقبل الآخر -، فإذا كنت أنا المثلي لم أحب هذا الأسلوب فمن المؤكد أن غير المثلي سوف تزيد كراهيته ونظرته السلبية للمثلي. ولا أعرف لماذا خسر كل أبطال القصة أو من اقترب منهم، بدءاً من عمران الذي كان يشبع رغبات عصام لينقلب عليه بشكل درامي غريب وغير مبرر، فيترك القاهرة ويعود للصعيد ثم يترك مصر كلها ويسافر إلى ليبيا، وحسن الذي علّم عصام الـ Oral Sex وانتهت علاقتهما بشكل سريع ومفاجئ لم يتجاوز بضعة أسطر أكدت على صورة المثلي الذي لا يرغب إلا في إشباع احتياجاته، كما خسر سونه الذي تعرض مرتين للضرب مرة على يد الشيخ الذي ضربه لأنه يفتن المسلمين والأخرى على يد الشرطة، كما تعرض محمد صديق عصام لأصعب خسارة بفقدانه لعمله بمحل التصوير لأنه مثلي، وإذا كانت هذه النماذج تكشف من ناحية مدى معاناة المثليين في المجتمع المحافظ، ولكن معاناة المثليين أكبر بكثير من هذه المواقف، أو أن التعبير عن المعاناة كان ضعيفاً بشكل واضح، ولكن كان من المفروض أن تضع لنا القصة النموذج المضيء الإيجابي. يحسب للرواية تعرضها لطرفي الميزان في موضوع المثلية، وأقصد هنا الدين والدنيا، فالشيخ صلاح الذي صارحه عصام بميوله رأى أن المثلية ابتلاء مثل الفقر أو الفشل أو الغنى، والله لا يعاقب الإنسان على مشاعره مادامت لم تنفذ بل يضع صبره على هذا الابتلاء في ميزان حسناته، ومطلوب من المثلي أن يحول اتجاهاته المنحرفة وطاقاته السلبية إلى اتجاهات سوية إيجابية، ولكن ما لم يقله لنا الشيخ صلاح كيف ينفذ المثلي هذه الروشتة؟ فغير المثلي قادر على استثمار طاقاته المنحرفة في الزواج وتحويل اتجاهاته المنحرفة لمسارها الشرعي الطبيعي، ولكن ماذا يفعل المثلي؟ أما وجهة النظر العقلانية المدنية المعتدلة التي عبر عنها عصام المحاضر في ندوة تقبل الآخر في الثقافة العربية، رغم منطقيتها لكنها اصطدمت بالواقع وبرفض الحاضرين لندوة تقبل الآخر أن يتقبلوا عصام المثلي كما رفضوا دعم عصام له، فهذا واقعنا الذي نعاني منه ولا نقدر على تغييره، لذلك لجا الكاتب إلى النهاية المفتوحة، ليحمل عصام لافتة مكتوب عليها "أنا مثلي.. أنا إنسان" ويقف بها على كوبري قصر النيل، لكن الناس اهتموا بكلمة "مثلي" ولم يهتموا بالإنسان، وأمام نظرة دعم من شاب مثلي آخر ورسالة على الموبايل من عصام، كان المارة لا يعرفون معنى كلمة مثلي، وعندما يفهمون يسبون ويلعنون ويتوعدون، ثم يختلط صوت الآذان بصوت سيارة الشرطة ليتردد صوت محمد منير الذي رافقنا طوال هذه الرحلة "في بلد الولاد" معلنا أهم مطلب لدى كل مثلي "يهمني الإنسان"، ولكن الناس اهتموا بأن عصام مثلي ولعلهم لم يقرءوا الجزء الآخر من اللافتة التي يعلن فيها أنه "إنسان". وإنني أحتاج لتقديم تحية كبيرة للصحفي الشاب مصطفى فتحي على روايته الصغيرة ومحاولته – التي قد تصيب وقد تخيب – للتعبير عن كثيرين لا يقدرون على التعبير عن أنفسهم، ويا مصطفى يا "إنسان مصري.. وبس" شكراً على روايتك، ولعل قيمة الإنسانية هي الهدف الذي نسعى له جميعا، وكما قلت في بداية الرواية "كلنا إنسان".