الثلاثاء، 9 ديسمبر 2008

الليلة.. إحساسي غريب

انتصف الليل.. ولا يزال جالساً في حجرته، من يراه وهو نائم على سريره ينظر في شرود لسقف الحجرة يظنه ميتاً لولا صدره الذي يعلو ويهبط، وبعض الزفرات التي يطلقها من حين لآخر، هو لا يعرف لماذا يشعر بالحزن، لكنه حزين، ينتظره مستقبل جيد وحياة أفضل من غيره، لكنه دائما يغلق حجرته على نفسه ويبكي بلا انقطاع.. وبلا دموع.. ولا يدري لماذا يبكي؟!

قام من سريره وفتح الراديو، وقال لنفسه.. ثالث أغنية سوف تذاع هي حظي، كانت تسليته هي تلك الأمور التي لم تحدث بعد، فهو لا يهدي لنفسه أول أغنية، بل يبحث دائماً عن الأبعدـ فكان يرى أن هذا نوع من الطموح، وبعد أن أذاع البرنامج أغنيتين، جاء الدور على الأغنية التي هي من نصيبه....

"
ودلوقتي أغنية ناس كتير طلبوها منا وهي لكاظم الساهر و الليلة إحساسي غريب"

تنهد وقال لنفسه "
يا الله"، وانبعث صوت المطرب العراقي

"
الليلة إحساسي غريب
عاشق وأنا مالي حبيب
حبيت كل الناس لاموني
حبيت كل أحبابي باعوني
قلت أحب الحب أحسن
قلت أحب الحب أضمن
لا أحن ولا أذوب
ولا بعد في يوم أحزن !!"

ازداد شروده.. "
هل أحبُّ في المُطْلق؟" قد أشعر بالحب، ولكن ألا يحتاج هذا الحب إلى تبادل؟ هناك حب من طرف واحد وهو العذاب بعينه، ولكن حين يحب الإنسان الحب نفسه ويعيش حالة حب مع عمله وأصدقاءه وسيارته والكنّاس في الشارع والشرطي في إشارة المرور والطفل الذي يذهب لمدرسته في الصباح والقطة التي تهرب عندما يصعد السلم، كل هذا أشبه بنهر حب لكنه يجري في اتجاه واحد، لكن الحب الذي يحتاجه مثل البحر، له جَذْره ومَدُّه ودواماته، وله حتى ضحاياه، قد تكون حالة الحب في الأغنية هل حالة رضاء نفسي، لكن الحب مثل الصوت الذي يحتاج إلى صدى يرد عليه، فإذا لم يأتِ الصدى فهذا الصوت كان جهداً وإرهاقاً وتعباً كان في غنى عنه !!

أخذ يتأرجح بين محطات الإذاعة وهو يبحث عن شيء لا يعرف ما هو لكنه يبحث عنه، فترك المؤشر على إذاعة لا يعرفها، وقام يقف أمام مكتبته الصغيرة، ومدّ يده ليأخذ منها قصة "هاري بوتر وسجين أزكابان"، لقد أشترى القصة من فترة لكنه لم يكن يجد الوقت للقراءة رغم أنه يملك كل الوقت، ولكن هذا هو، لا يفعل إلا ما يشعر به حتى لو لم يكن يعرف كيف يفعل هذا الشيء، وظل لحوالي ساعة ونصف يقرأ تلك الرواية وشعر بانجذاب خاص لهذا الطفل الذي يعيش مع عائلة ترفض أن يكون ساحراً ويغطون أعينهم بأيديهم حتى لا يرون حقيقته، ويظل ينتظر الأيام والأيام حتى يعود إلى العالم السحري الذي ينتمي إليه.


بدأ صداع القراءة المتواصلة يهاجم رأسه، أحس بالملل من حجرته وسقفها، وشعر بالملل من صوت الراديو ومن الكتب والصحف من حوله، نظر إلى الساعة فوجدها الثالثة صباحاً، فتذكر كلام والدته حين قالت له أن آلام ولادته بدأت تهاجمها في الثالثة صباحا، فكان يشعر أن الساعة الثالثة صباحاً هي بداية إعلان حياته، والوقت الذي اتخذ فيه أول قرار في حياته وهي أن يعبر رحم أمه إلى هذه الدنيا.

نزل من بيته وركب سيارته وظل يجوب الشوارع الخاوية إلا من بعض الشباب الساهرين، فكان ينظر إليهم ويسأل نفسه هل أتمنى أن أجد أصدقاء لأسهر معهم مثل باقي الشباب؟ أم هذه القوقعة التي أعيش فيها هي الأفضل؟ ففتح زجاج سيارته وقام بتشغيل إحدى أغاني زياد الرحباني ورفع الصوت لأعلى درجة وانبعث الصوت الأجش والتخت الشرقي يقول

"
أنا مش كافر.. بس الجوع كافر
أنا مش كافر.. بس المرض كافر
أنا مش كافر.. بس الفقر كافر.. والذل كافر
انا مش كافر.. لكن شو بعمل لك
إذا اجتمعوا فيي كل الإشيا الكافرين؟!"

وأخذ يغني معه، يدندن قليلاً، يغني قليلاً، ويصرخ قليلاً بالكلمات صرخاً، أنا مش كافر.. انا مش كافر.. ولكن ماذا أفعل إذا كنت أشعر بكل آثام الكفار؟ ولكن إذا كنت أشعر بذنوبهم.. أليس شعوري هذا أكبر دليل على أني لست كافراً، فالكافر لا يؤلمه كفره، والقاتل لا يؤلمه جرح ضحيته، اما هو فيشعر ويتألم وفي النهاية يصرخ مع هذا الصوت الأجش، أنا مش كافر.. أنا مش كافر!

أخذته سيارته إلى كورنيش النيل، فطلبت رئتاه أن يشم الهواء من فوق كوبري قصر النيل، فاوقف سيارته وأخذ يسير على الكورنيش حتى وصل إلى الكوبري، وظل مثل التمثال ساكناً لا تكاد عيناه تطرفان وهي تتأمل مشهد النيل الذي يجري وهو يعرف أين سوف يذهب ومن أين أتى ولمن يقطع هذه المسافة الشاقة من الحبشة إلى مصر.

كان الجو بارداً نوعاً ما، ورغم ذلك كان يرتدي قميصاً خفيفاً، وكأنه يرفض البرد ويرفض أن يحني جبهته للطقس، جاء شاب ووقف بالقرب منه وأعطى ظهره لسور الكوبري وقال له "هي الساعة كام؟"، ودون أن ينظر إلى ساعته قال له "الرابعة إلا عشر دقائق"، فقال له الشاب "الجو برد.. أنا سقعان.. انت ليه....." فلم يدعه يكمل كلامه، فقطع كلامه بتركه وعاد إلى سيارته، فهو لا يبحث أبداً عن المعارف أو الشخص الذي يتجاذب معه أطراف الحديثـ هو كتلة من المشاعر، يحتاج لمن يفهم هذه المشاعر، فلو لم يجده فيكفيه أن بداخله قلب يشعر، ورغم أنه كثيرا لا يعرف ما الذي يشعر به، لكنه يقول لنفسه "يكفيني.. يكفيني أنني أشعر، فربما يأتي اليوم الذي أعرف ما الذي أشعر به أو أجد من يفهم ما أشعر به، ولكن غيري لا يشعر من الأساس ولن يعرف شيئاً أبداً، يكفيني جداً أنني أشعر.


فتح الراديو.. فوجد صوت سميرة سعيد يقول

"
صدقني أو ماتصدقنيش
على قد اللحظة بحب وأعيش
سميها جنون أو لحظة طيش
لكن مع نفسي أنا صادقة.. أنا صادقة"

فتنهد.. وداعبت ثغره ابتسامة لأول مرة تظهر على ملامحه في هذه الليلة، وعاد إلى بيته راضياً، فهو لن يرضى بأقل من الصدق في مشاعره ومشاعر الشخص الذي يبحث عنه ويحتاجه في حياته.. حتى لو عاش حياته وانتهت دون أن يجده.