الثلاثاء، 5 مايو 2020

كيف تكسب قضيتك دون مرافعة؟.. الإجابة هوليوود!


أول فيلم شاهدته عن المثلية كان Brokeback Mountain، وكان مبهراً لي وقتها -مع كآبته- أن أشاهد فيلماً يتحدث عن مشاعرنا، فمَن منا لم يضطر لارتداء قناع لإرضاء المجتمع -مهما كان شكل أو نوع القناع- ومَن منا لم يجرب إحباطات وسعادة وقسوة عاشها بطلا الفيلم، ومع الوقت شاهدت أفلاماً كثيرة عن المثلية، قد تتلخص في عبارة "الحب المستحيل"، ففكرة أن تحبَ رجلاً وترتبط به يبدو أنها لا تزال غير مستساغة في الغرب حتى الآن، وفي المقابل لا زلت أتعامل مع سينما المثلية بنوع من الريبة، هذا فيلم كئيب جيد أو كئيب سخيف، مع بعض الاستثناءات التي تؤكد القاعدة دون أن تنفيها.

أقنعت نفسي مع مرور الوقت بمبدأ لتقبل أفلام المثلية -مثلي يحتاج إلى تقبل أفلام المثلية!!- وهو أن هذه الأفلام قصص حب مثل أي قصة حب في السينما، والأفلام الرومانسية التي تنجح في السينما هي التي تنتهي بالمأساة ليتعاطف الجمهور أكثر، وإلا كانت قصة حب عادية لا تحتاج لمن يذكرها، ومن هنا فتر حماسي لمتابعة أي فيلم عن المثلية، فالأفكار والمعالجات أصبحت معروفة بالنسبة لي، إما قصة حب، أو صدام مع المجتمع، أو مشاكل لتقبل الذات، أو قصة عن أحد رموز المثليين، أو فيلم سخيف للإتجار بالمثلية، وهو ما كان يحبطني أكثر.

وكانت محاولات Netflix لإدخال شخصية المثلي في أعمالها مقبولة عندي إلى حد ما، كنت متفقاً مع اتجاه ألمسه دوماً في أعمالها، هناك مثليون.. فما الداعي لتسليط الضوء عليهم؟ دعهم يدخلون الضوء بهدوء وبالتدريج حتى يصبحوا جزءاً لا يتجزأ من الكادر، هناك قبلة بين رجلين -في سياق الدراما- ما المشكلة إن كان دون ابتذال وإن كانت 15 ثانية وسط مسلسل 7 أو 8 حلقات؟، ما المشكلة أن يكون في كل حلقة من sherlock سؤال أو تلميح حول العلاقة بين شيرلوك هولمز ودكتور واتسون؟، حتى مسلسل Dracula كان أحد أسئلة أجاثا فان هيلسنج لجوناثان هاركر "هل مارست الجنس مع دراكولا؟"، تلميحات غير مباشرة أحيانا ومفاجئة أحيانا، لكنها لا تخرج عن دائرة التلميحات، إن استثنينا sex education الذي إن لم يتناول قصة مثلية متكاملة ضمن الأحداث لن يكون sex education.


وفي الأول من مايو الجاري أصدرت Netflix مسلسل Hollywood من سبع حلقات، من البداية استشعرت أنه سيكون مختلفاً في تناول شخصية المثلي، فالاضطهاد الأكبر الذي يعاني منه (آرتشي) كان بسبب لونه وليس مثليته، لقد تقبلت دائرته المحيطة مثليته، وتقبّل أن يدفع ثمن مثليته وإن وصل الأمر لإنهاء عقده مع شركة الإنتاج، وسدد ضريبة الحب والارتباط دون أن تؤلمه للحظة صيحات الاستهجان، ولم يفرد صناع المسلسل لهذه المشكلة دقيقة واحدة، لقد كان قوياً وشجاعا حين قرر أن ينزل ممسكاً بيد حبيبه أمام ألف مصور وألف صحفي ويقبله أمام حضور توزيع الأوسكار، في حين أنه رضخ في البداية لحذف اسمه من الفيلم لأنه أسود، وكانت كلماته على مسرح الأوسكار طاقة إيجابية لا حدود لها لكل "إنسان".

من أكثر الشخصيات الفجة والتي تحتوي على تدرجات مختلفة من الألوان والمشاعر شخصية وكيل أعمال الفنانين هنري ويلسون، نستطيع بكل إنصاف أن نصفه بالـ "وغد"، فهو يستغل جنسياً المثليين ليحقق رغباته أو مصلحته، ولكن إن بحثنا عن ما خلف الشخصية سوف نجده غير متقبل لذاته، يبحث في كل شخص يقابله عن صديقه الذي توفى، وفي نفس الوقت لا يريد أن يجد نفسه خاسراً وسط مجتمع هوليوود القاسي الذي لا يعرف سوى المصلحة والمادة، فأصبح مثلهم حتى في الجنس والمشاعر، يعامل الجميع بكل عنف وازدراء، فالناس عنده مجرد قطع شطرنج يحركها كما يشاء، ولكنه في النهاية يكتشف أنه لم يكن إنساناً، إنه يحتاج إلى تقبل نفسه وأن يشعر بأنه ليس عاراً، يحتاج إلى حب يهذب مشاعره ويتعامل بالإحساس بدلاً من الحسابات، لذلك في آخر حلقة يتحول إلى شخصية شديدة الاختلاف عن الحلقات الستة الأخرى، وينجح في كسب التعاطف باعتذاره لـ(روك) وبإقدامه على تخليد ذكرى (ديك).

بعض المثليين يعبر عنهم (روك) الذي تعرض للتعنيف المستمر من والده حتى فقد ثقته بنفسه، كما تعرض للاستغلال الجنسي من وكيل أعماله الذي كان يتاجر به في الوسط الفني والاجتماعي، بالقطع يحتاج لمن يحب ومن يشاركه بيته، ولكنه جاء إلى هوليوود ليكون مميزاً ويدخل تحت أضواء الشهرة والسينما رغم أنه ممثل سيء للغاية، ولكنه تدرب كثيراً واجتهد، وفاز بالدور اللائق به في فيلم "ميج" وفاز أيضاً بمن يحبه ويشاركه منزله، فمن يريد أن يفكر إن كان مثلياً أو غير مثلي، لقد اجتهد ونجح مثل أي إنسان صنع نفسه دون أن يقدم دوراً مأساوياً أو يصدعنا ويؤلمنا بالمعاناة، هذه الشخصيات الثلاثة تذوب بسلاسة وسط الشخصيات المغايرة والأحداث المتتابعة، دون ضغط غير مبرر على "خط المثلية"، إنهم متساوون في الحياة، مثلما وكيل الأعمال وغد مستغل، صاحب محطة الوقود وغد مستغل أيضاً تجمعهما خفة الدم، مثلما هناك قصة حب رقيقة مثلية تسير بالتوازي معها قصة حب مغايرة بين (إينزلي) المخرج و)كاميل( الممثلة، مثلما هناك وكيل الأعمال المستغل المثلي (هنري) هناك صاحب ستديوهات الإنتاج المستغل أيضا المغاير (آيس أمبرج)، كلنا متساوون في هذه الحياة.


أهم شخصية مثلية -من وجهة نظري- في الفيلم هي شخصية (ديك) مدير الإنتاج الذي لم يبح بسره إلا في النهاية، بل عندما خلع (روك) ملابسه أمامه صرخ فيه قائلا: "أنا لست كذلك"، ورأينا الألم في عينيه حين طلبت منه (كراندل) الارتباط به وأبدت تقبلها له حتى إن كان مثلياً، وهو ما رفض التصريح به لها، فكان كما قال (هنري) عنه "رجل بلا شبهات ولا فضائح"، ربما كان يحب عمله، يعشق "حرقة الدم" في اقتصاديات السينما، لعل هذا هو المخدر المناسب لمشاعره المثلية التي ظل يقاومها سنيناً طوالاً، لكنه في آخر أيام حياته التقى أخيراً بمن يحب، والذي وقف في الكنسية ينعى (ديك) المسجى في التابوت، (ديك) يعبر عن كثيرين منا، فما أنجح المثليين في عملهم ووظائفهم، وإن كنا نداري كثيراً من آلامنا بالانهماك في العمل وإجادته.

وبمناسبة مشهد الكنيسة لا يجب أن تمر مرور الكرام لقطة (أرتشي) وهو يمسك يد حبيبه (روك)، حين تقول (كراندل) إن من دون (ديك) لن يكون هناك فيلم "ميج" الذي غير وجه هوليوود.

"خط المثلية" لم يكن مقحماً في المسلسل لأن المسلسل نفسه يتكلم ويهدف بالأساس إلى التعبير عن المثلية وسط الحياة، 4 شخصيات مثلية أساسية ومحورية مساوية لـ 7 شخصيات مغايرة، المسلسل يتعامل مع المثليين في هذا الزمن على أنهم طبيعيون، ربما هناك قضايا يعبر عنها مثل الارتباط أو تقبل الآخر وغيرها، ولكنهم في النهاية جزء من قصة الحياة وليسوا جزءاً تافها أو هامشياً أو مأساويا، رغم هذه القضايا والأحداث لم يعاملهم المسلسل على أنهم ذوي احتياجات خاصة يلقون من الناس عدم التقبل والإهانة، ويواجهون بعضهم بعضاً بالاستغلال والكراهية، لم تظهر الشخصيات المثلية في المسلسل بمظلومية، بل ظهروا طبيعيين، الصورة في الواقع ليست وردية؟ بالطبع، ولكن المثلي في الأعمال الفنية يحتاج إلى هذا التناول، يحتاج إلى عرض قضيته دون أن يعرضها، يحتاج أن يقول أنا هنا بإبداعاتي بأفكاري بأخطائي بنزواتي مثل أي إنسان آخر، لا نريد أفلاما تقول للناس تقبلوا هذا المعاق واشفقوا عليه، لسنا معاقين، بل نحتاج لمن يرى إبداع (أرتشي)، يشجع (روك)، يسامح (هنري)، يحترم (ديك) الذي كانت آخر كلماته في الحياة "أموت كرجل صادق"، لعلنا نعيش بهذا الصدق ونموت بهذه السعادة.